الجمعة، 10 أكتوبر 2008

مغروسين فى البلد دى بجالوص طين

أحد عشر شاباً يدرسون بكليات مرموقة اختاروا بكامل قواهم العقلية أن يتركوا مصر مع أول فيزا وبطاقة طيران أتيحت لهم في منحة علمية قصيرة، بمجرد وصولهم لمطار أمريكي فروا و تسربوا بحثاً عن أعمال بسيطة لا تتناسب مع ما سافروا لأجله، أظن أنه لو أتيح لآلاف آخرين فرص مثيلة فإنهم سيكررون المغامرة، تتكرر الحادثة بتفاصيل مختلفة كل فترة، جثث شباب تلقيها السواحل في رحلة هروب خطرة إلى دول أوربية، يتم السفر غالباً بهويات سليمة ولكن بتأشيرات يشوبها التلاعب، وبمقابل مادي كبير يدفع لتجار البطالة و الحلم بمستقبل ما بعيداً عن وطنهم، هذا الوطن الذي أصبح من العسير فيه الوصول لظروف معيشة أفضل بنفس المعادلات القديمة ( كالعمل و الاجتهاد و الأمانة). إنه لأمر مقلق؛ ففي يوليو الماضي وضمن حلقة حوار تلفزيوني ضمت شابين من بين عشرات اعتقلوا على هامش الاعتصام المؤيد لمطالب القضاة الإصلاحيين، تحدث الدكتور شيرين عبد العزيز النائب بمجلس الشعب عن الحزب الحاكم مهاجماً موقف الشباب الذين لم يعجبهم تفشي الفساد و التسلط بمصر، ونصحهم نائب الشعب بإن "اللي موش عاجبه حال البلد يمشي...ويسيبها " نعم قالها حرفياً "اللي موش عاجبه حال البلد يمشي...ويسيبها " ذكرني هذا بحوار أجريته مع أحد أبناء الحركة الشيوعية المصرية قال إنه عندما خرج من معتقله في عام 1964 بعد 6 سنوات من الاعتقال، طلبه الأمن وقال له مسئول أن الأفضل له أن يكمل دراسته بالخارج، و اقترح عليه ضمناً وكان يعمل بشركة مصرية لها تمثيل بالخارج أن ينتقل لفرعها بعاصمة ثلجية، ابتسم محدثي وهو يتذكر بفخر تعقيبه على هذه النصائح الغالية "يا بيه..أنا مزروع ف البلد دي بجالوص طين" وربما قال جالوص جلّه- لا أتذكر اللفظ تحديداً- و الجلة عزيزي القاريء هو وقود يصنع من روث الحيوانات في الريف ولا زال مستخدما على نطاق ما.والحقيقة أن هذه العبارة الطريفة بدأت تحاصرني مؤخراً كلما تذكرت لحظات التبرم التي نلاقيها بمصر تحت حكم مبارك، ومع ارتفاع مستوى الإحباط، نشعر أكثر من أي وقت مضى أننا مرتبطون بهذا الوطن، مسئولون عن عثراته، علينا واجب تجاه إصلاحه و صنع مستقبل لأطفالنا، فلو شد ك لمنا رحاله في سفينة أو طائرة، لمن نترك الأرض العرض، لمن نترك العزبة؟ لأصحاب التكية؟ عندما يزداد ضيقنا من تردي الأوضاع و تخبط المعارضة و أشباهها، فقط أعرف أنني أيضاً "يا بيه.. مغروسة ف البلد دي بجالوص طين" أضحك من كل قلبي عندما أشاهد على فترات متباعدة بعض المصريين الذين يتعالون دوماً بأن جدهم الأكبر جاء من جزيرة كذا و جدتهم الكبرى من الجزيرة أو الأرخبيل المقابل فالتاريخ يحيلنا لأصول هؤلاء الحقيقية، مماليك مساكين أوقعهم حظهم العاثر في الأسر قبل قرون، عسكر قتلة وفدوا مع غزوة أو غارة ثم ماتوا ودفنوا في طين بلد استوعب جثث الملايين قبلهم من كل لون وجنس، وعندما وجد أحفادهم بلداً و وطنا، وكلما أرادوا إثبات تفوق وهمي بلا أي مبرر و بدون أي اجتهاد أخذهم الصلف والتعالي ليرددوا عمال على بطال إحنا تراكوة، مجرد أرجوزات: جهلهم بما يحق للمرء الفخر به غير نسبه الذي لم يصنعه، هو نفسه الجهل الذي يمنعهم من فهم أنه لم يكن هناك أصلاً وقتها دولة اسمها تركيا، بل ممالك عدة تمتد حتى وسط آسيا وربما كان جدهم من تتارستان حالياً أو طاجيكستان مثلاً، لو سمعوا كلام سيادة النائب، "اللي موش عاجبه حال البلد يمشي...ويسيبها " وطالما لديهم بديل فليعودوا له و يريحونا.في نهاية السبعينات قام صدام حسين- و هو طاغية حكم العراق لأكثر من ربع قرن و مع ذلك سقط حكمه على يد الاحتلال الأمريكي الذي كان يدعمه لأكثر من 7 1عاماً – بتهجير آلاف من العراقيين من الكرد الفيلية بحجة أنهم من أتباع الدولة الصفوية- و هي إمبراطورية زالت قبل هذا الزمان بزمان و حل محلها دولة إيران الحالية – و في يوم و ليلة نفى عنهم الانتماء للعراق و نهب أموالهم، ثم بدأ التضييق على الشيوعيين و بدأ في إعدامات جماعية لحزب الدعوة، طبعاً مبارك لن يسير بنفس درب صدام، طبيعة المجتمع و التاريخ تمنعه، لكن ما قاله نائبه هو مؤشر على أن النظام يتعامل الآن مع معارضيه باعتبارهم أغرابا عن البلاد و اللي موش عاجبه يمشي.!لا يا سيادة النائب، موش ها نمشي، واجبنا هو أن نطهر بلدنا، أن نحاصر القبح و الفساد، أن نخلق الوعي بحتمية التغيير في عقول البسطاء، نمدهم بأساليبه و نمكنهم منها، نستوعب تجاربهم و رؤيتهم للتغير الذي يريدون، نبحث عن الفئات الأكثر قابلية للتثوير، نصنع من كل ناشط "نصيراً" لهم، نتماس مع معاناتهم ونخففها، ونشير بإصبع الاتهام صراحةً لمصدرها، أن نقف بجوار كل المتطلعين لنيل حقوقهم، مع الفقراء و المسحوقين و المهمشين مع المعتقلين حتى يخرجوا، مع المظلومين حتى ينالوا حقوقهم، و عندما ينصف هؤلاء – إذا كان لنا من العمر بقية – قد نفكر وقتها في بعض الترحال، لنعود أكثر التصاقا بتراب هذا البلد.

ليست هناك تعليقات: